قضايا الصراع - العدد الثاني - يوليو 2001

الانتفاضة وجريمة أوسلو (2)

شروط الصفقة:

عندما تولت حكومة نتنياهو السلطة في عام 1996 رفضت التقيد بالتزامات الحكومة السابقة في "إعادة انتشار" القوات في مدينة الخليل، وتحججت بوجود مجموعة من 400 مستوطن يهودي متطرف (معظمهم من الولايات المتحدة) لاستمرار احتلال المدينة التي يسكنها أكثر من 200 ألف فلسطيني. وفي القمة التي عقدتها واشنطن في واي ريفر في أكتوبر 1998، تراجع نتنياهو عن اتفاقية سابقة بالانسحاب الكامل من مدن الضفة الغربية، ثم أعاد تقسيم برنامج "إعادة الانتشار" إلى مرحلتين قام بتنفيذ واحدة منها فقط. وأثناء هذه القمة وافق عرفات على السماح للمخابرات الأمريكية بمراقبة الشرطة الفلسطينية حتى تضمن قيامها بمهمة ضرب أي معارضة للاحتلال. وبعد عام واحد تراجع "حمامة السلام" - إيهود باراك - عن وعود نتنياهو بالانسحاب من 41% من أراضي الضفة الغربية. لقد اعتادت إسرائيل والولايات المتحدة إلى اللجوء إلى النوع من المماطلات حتى تحصل على تنازلات أكثر من "السلطة الفلسطينية" بعد أن فتح باب التنازلات إلى ما لا نهاية كلما أمكن. هكذا فتح "إعلان المبادئ" الطريق لسلسلة من الاتفاقيات التي حددت الشروط التفصيلية لاستسلام فلسطين. كان أهم هذه الاتفاقيات اتفاق أوسلو 2 ومذكرة واي ريفر عام 1998. لم تضع أي من هذه الاتفاقيات آلية لإعلان دولة فلسطين، بل أنها على العكس تركزت على تثبيت السيادة الإسرائيلية ودعمها. أهم هذه الاتفاقيات التي تركز على هذا الجانب كان اتفاق أوسلو 2 المكون من 400 صفحة تحدد بدقة تفاصيل عمل السلطة الفلسطينية وعلاقتها مع الكيان الصهيوني، كما وضعت تصورا عن برنامج تدريجي "لإعادة انتشار" القوات الإسرائيلية على حدود تجمعات القرى الفلسطينية! حسب هذا الاتفاق أيضا سوف تتولى السلطة الفلسطينية أعمال "الإدارة المدنية" في مهام مثل جمع القمامة وأعمال الشرطة على الفلسطينيين داخل هذه المناطق، وتحتفظ إسرائيل بالحق الكامل في التدخل من أجل "حماية المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وغزة" ولا يكون للسلطة الفلسطينية أي سلطة على الإسرائيليين الذين يقيمون داخل أو بالقرب من القرى الفلسطينية، وعلاوة على ذلك وافق عرفات على أن يكون لإسرائيل الحق في السيطرة على جميع الموارد الهامة في أراضي الضفة وغزة، فكما أعلن شيمون بيريز، ممثل الكيان الصهيوني في مفاوضات أوسلو "إن الصفقة احتفظت لإسرائيل بما يلي: 73% من الأراضي، 97% من السيطرة الأمنية، و80% من موارد المياه." ولكن حتى برغم ما وصلت إليه هذه الاتفاقيات من تبديد حقوق الشعب الفلسطيني، فإنه سرعان ما تكشفت عدم نية إسرائيل الالتزام بالوعود التي قدمتها على الورق، كما اتضح أن الولايات المتحدة لا تنوي ممارسة أي ضغط على إسرائيل (والذي تراهن عليه كل الأنظمة العربية) حتى تمتثل لهذه الوعود. بل قام كل منهما بتضخيم أي تجاوز أو إخفاق من جانب عرفات في كفالة أمن إسرائيل - سواء كان هذا الإخفاق حقيقيا أو وهميا، واستخدام ذلك في مبرراتها الدعائية لتجاوزها. وما قامت به حكومة نتنياهو في 1996 ومن بعدها حكومة باراك وتطور الأمور إلى ما وصلت إليه في ظل السفاح شارون كله يشير إلى طبيعة تلك الوعود الورقية.

ونستطيع أن نرصد النمط الذي اتخذته المماطلات الإسرائيلية وتلاعبها بالاتفاقيات منذ عام 1993، فبداية تمتنع إسرائيل عن الوفاء بوعودها التي قدمتها على الورق، بما يدفع "عملية السلام" المزعومة إلى حافة الانهيار، تتدخل واشنطن بسرعة حتى تستعيد "عملية السلام" إلى مسارها، تعقد قمة عالية المستوى للتوصل إلى ترقيع الاتفاقيات السابقة باتفاقية أخرى تمنح إسرائيل تنازلات جديدة، ثم تبدأ الدورة من جديد، ولهذا نجد هذا الكم الكبير والمربك من الاتفاقيات والتفاهمات التي تتردد في وسائل الإعلام على ألسنة "المفاوضين"، والتي لا قيمة لها في الواقع سواء "قانونية" أو "سياسية" إلا أنها تمنح إسرائيل شرعية جديدة للقمع.

حقيقة المسار السلمي:

وبينما يهتف ويصرخ جهابذة المفاوضات والدبلوماسية على شاشات التليفزيون حول اتفاقات وتفاهمات لا قيمة لها، قامت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ببناء مستوطنات لأكثر من 400 ألف يهودي في الضفة والقدس الشرقية، والتي تمثل الركيزة التي تعتمد عليها إسرائيل لخلق واقع على الأرض يوسع السيطرة الإسرائيلية داخل الأراضي الفلسطينية. وزع هؤلاء المستوطنون بمعدل 200 ألف في الضفة وغزة و200 ألف أخرى داخل القدس نفسها حيث تهدف إسرائيل إلى تهويد المدينة لتحول دون فرض الفلسطينيين سيادتهم على العاصمة الفلسطينية، وعند اكتمال مستوطنة "ماعال أدوميم" سوف تمتد من القدس إلى نهر الأردن لتغطي مساحة أكبر من "تل أبيب". وبالطبع يتضمن هذا التوسع هدم وتدمير منازل الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم حيث أشار تقرير لمنظمة العفو الدولية في أواخر 1999 إلى هدم إسرائيل لأكثر من 1100 منزلا فلسطينيا (بسبب عدم الحصول على ترخيص بالبناء!). ومنذ عام 1993 استثمرت إسرائيل حوالي 1.2 مليار دولار من المعونة الأمريكية في بناء شبكة الطرق السريعة التي تعبر خلال الأراضي الفلسطينية في الضفة وغزة وتربط بين المستوطنات متجاوزة القرى الفلسطينية. وعندما تكتمل هذه الشبكة يستطيع الإسرائيليون التنقل خلال الأراضي المحتلة دون التصادم أو الالتقاء بأي فلسطيني. وسوف تحقق هذه الشبكة على الأرض ما تم التوصل إليه سياسيا في اتفاقيات أوسلو بتمزيق فلسطين وتقطيع أوصالها، فالمدن والقرى التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية سوف تتحول إلى جزر منعزلة تحيط بها المستوطنات والنقاط العسكرية الصهيونية، ليصبح عرفات رئيسا شرفيا لدولته الوهمية على 90% من أراضي الضفة وغزة والفلسطينيين محاصرين في تجمعات ممزقة إقليميا، وأي فلسطيني يرغب في زيارة قريب له في مدينة أخرى سيكون عليه القيام بجهد أسطوري للحصول على تصريح نقاط التفتيش وتجنب المستوطنين المسلحين. أما البعد الأخير من خطة الكيان الصهيوني في مصادرة فلسطين فيكتمل بحرمان حوالي 4 ملايين لاجئ فلسطيني من العودة إلى أراضيهم، وذلك من خلال الوعود بتعويضات مالية والتخيير بين إعادة التوطين إما في الدويلة الفلسطينية الجديدة أو في البلاد العربية المحيطة. وهذا ما تتفق حوله كافة الحكومات الصهيونية سواء الحكومات اليمينية بقيادة نتنياهو وشارون أو حكومات العمل مثل حكومة باراك.

وأخيرا:

تعرضنا خلال هذا المقال إلى الجوهر الحقيقي لعملية التسوية، والجريمة التي أقدم عليها عرفات بدعم الأنظمة العربية المختلفة في اتفاقيات أوسلو وما تلاها من تنازلات. إلا أن كل مخططات الصهيونية التي اعتمدت على خيانات الحكام العرب والدعم الأمريكي لها وتفوقها العسكري ليست قدرا محتوما، فها هو الشعب الفلسطيني يقدم من جديد صورة رائعة من صور النضال في مواجهة الصهيونية وآلتها العسكرية، وهاهو يبرهن من جديد على قدرة الشعوب على الصمود وصناعة تاريخها مهما بلغت قوى القمع من جبروت. إن انتفاضة اليوم برهان على استحالة تحقيق صفقة عرفات مع الكيان الصهيوني في اتفاقيات أوسلو على الرغم من أنها حتى الآن لم تصنع بديلها القوي في اتجاه التحرر من الكيان الصهيوني.

عودة إلى محتويات العدد عودة للرئيسية